"بل سترقص يا ابن الكلبة"
رشا عباس
يقولُ لك: لا ترقص.. لا ترقص كرامةً للدم يا ابن الكلبة.
وأنت تسأل نفسك كأي ابن كلبةٍ فطن: هذا العنف الذي يضخونه فيك كل يوم، أين ستطرحه إذاً؟
شيء
كثير صراحة، شيء كثير عليك أن تتحمله اليوم، وبالإكراه، أن تكون سورياً،
لم يقم أحدٌ بأخذ رأيك قبلَ أن تُجلبَ إلى هذا العالم القذر، لذلك يحق لكلّ
منا اعتذارٌ مجلجل من والديه، كل يوم عليك أن تبتلعَ كل تلك الجثث من على
الشاشة، تُجلد مراراً بوجوه ذات ملامح واضحة لأطفال شهداء، وتلعن أخت الزمن
الذي اخترعوا فيه كاميرات تصوير بهذه الدقة، ثم لتنطلق بعد ذلك وتحاولَ
كأي إنسان طبيعي أن تعيش يومك، وتعالج علاقاتك اليومية – أو ما تبقى منها -
حتى العلاقات جديدة الآن، للسوريين نكهة أخرى لم يجربها أحدٌ من قبل:
في
عتمة الأزقة، وسط انقطاع الكهرباء وجوهٌ يلمعُ شحوبها، انظر إليهم بتركيز
دون أن تزعجهم: إنهم منشغلون بحبكِ أسطورة، في شارع، في مظاهرة، في
ميكروباص أو خلف القضبان.
حتى
الحبّ هنا يبدو مختلفاً: تبحثُ بوله عن يد تمسكها وسط هذا العماء الكثيف،
ثم تكتشف أنك عاجز عن قول جملة غزل واحدة، لقد تعبتَ بالفعل، قتل العنف كل
حماس لعاطفة، سترتدي ملابسك وتغادر البيت ما إن ينام شريكك على الأغلب.
ويقولون لك: لا ترقص...
لا ترقص كرامةً للدم يا ابن الكلبة....
هذه السوريا التي يتحدث عنها الجميع الآن كبقعة دم طري على الخارطة، ما هي أصلاً إلا تلك التي تقطرُ غزلاً من أي مكان تلمسها فيه:
لدى
السوريين كل شيء عاطفة، إذ أحبوك ولو قليلاً يدخل الموتُ سريعاً في هذه
المحبة، يدعونك لأن : "تقبرهم" أو "تطلع على بلاطة قبرهم" أو تشكل على
مقابرهم نبتة الآس، ومن أكثر كلمات غزلهم شيوعاً هي: "تقبشني" التي تعني في
الأصل وضع القطن في فم الميت بعد غسله، لا يمكن في مكان آخر من العالم أن
تسمع بائع خبز ينادي في الطريق: "رماك الهوا يا ناعم"، وفي تجلًّ أوقح:
بائع الألبسة الداخلية النسائية في سوق الحميدية الذي يصرخ في وسط السوق
على ما لديه، بكل رقة: "قفص للعصفور".
هذا الشغف المميت يُطبق الآن عملياً على السوريين، أحبوا الحرية فقبرتهم بالفعل. لم تكذب سوريا.
الجميلة كتاج العروس، التي مرّ على ظهر يدها تاريخ الهوى وأصول الإغواء، رغم تحفظها الظاهر.
أي حد من السماجة يفترض أن تبلغ، حتى تُحملّها سلاحاً هذه التي أرقُّ من أي إطار سياسي... من أية مجزرة؟
ويقول لك: لا ترقص...
لا ترقص كرامةً للدم يا ابن الكلبة...
تنظر
من فوق متاريس الموت إلى ما سيأتي: لا تداعبك أحلامُ أحزابٍ حكيمة هائلة
مرة أخرى، يحق للسوريين أن يستريحوا، تتذكرُ لافتة رُفعت في مظاهرة: "بعد
الثورة، سيصبح اسم جمعنا: جمعة التعزيل، جمعة السيران، جمعة الغسيل".
لا
أحد مهووس بفكرة القائد الحكيم النصف إله، هذه الناس تريد أن تكون هكذا:
تحب وتكدح لتكوين بيت وأسرة وتتشاجر وتفرح في ظروف أفضل، تستعيد إحساسها
بكل شيء دون عبء الأيديولوجيا العفنة، ومقولات قلعة الصمود والتصدي والدور
الإقليمي ورأس الحربة.
غداً سنحتفي بأول جيلٍ نقي من الأطفال، بَركة سوريا سيكون أولئك الأطفال:
لن
يطلب أحد منهم في المدرسة كتابة مواضيع إنشاء واقعية اشتراكية عن نضال
الطبقة العاملة والإصلاح الزراعي، لن يكون لديهم دفتر مثل دفتر الرسم الذي
كنت تملكه وأنت في الابتدائية:
كل
صفحة من صفحاته صفحاته تحمل رسم شمعة واحدة تمثل عيداً وطنياً: شمعة
لمناسبة الحركة التصحيحية: الحركة التصحيحية هي الشمعة التي احترقت لتنير
لنا الطريق، شمعة بمناسبة عيد تأسيس الحزب: الحزب أيضاً شمعة احترقت لتنير
لنا الطريق، الخ... إلا صفحة حرب تشرين، حيث كنا نبذل جهداً خارقاً لرسم
دبابة وجنود، أية سفالة هذه أن تطلب من أطفال رسماً صعباً كالدبابة وساحة
الحرب؟؟
غداً
سيرسمون فقط أمهاتهم وآبائهم بشكل "مفشكل"، ويجربون كتابة الشعر عن حياتهم
وألعابهم ومقالبهم. لا دبابة ولا حركة تصحيحية ولا شموع جنائزية على دفاتر
الرسم.
ويقولون لك لا ترقص..
ولكنك
سترقص يا ابن الكلبة، ستحمل الآن كل اختلاطات هذه المرحلة وتنزل بوقاحة
إلى الشوارع كما أريدك، سترقص بفجور يوازي ما حدثَ لك، ستمشي على الحبل
وتنفخ ناراً من فمك، في عين الرب ستضع عينك لن تخجل منه، وإلا لماذا هو
موجود هنا أيضاً؟ أهداك هذا الشوك وسترقصُ عليه تحدياً، سيأتيك الموت غداً
أو في وقت قريب، وسيتريث لحظاتٍ قليلة إذا دخل الباب ورآك ترقص معنا، من ذا
الذي لا يحب رؤية الموت مضطراً للانتظار؟.
___________________________
كاتبة من سورية
الصورة من الفيلم التشيكي Alois Nebel للمخرج Tomás Lunák
*****
خاص بأوكسجين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق